top of page

نظرية le flâneur و ظاهرة الحيطيست


الحيطيست…ربما كان أول من أخرج هذا المصطلح من نطاقه المحلي، إلى فرنسا أولاً وبقية البلدان، هو الكوميديان الجزائري "فلاّق"، نهاية التسعينات عندما كان في بدايات نجاحه، خاصة في الوان مان شو الشهير: جُرجراسيك بلاد. حيث عَرّفَ فلاّق الحيطيست بأنّه ذاك الشاب الذي يُشكّل حائطاً للحائط... ولاحقاً تمّ التعرّض للحيطيست كظاهرة جزائرية، خاصة في الأفلام الوثائقية الفرنسية التي تلَت العُشرية السوداء. نرى الكاميرا تُصوّر من بعيد مجموعة من الشباب يتكئون على حائطاً، بعضهم جالس والبعض الآخر يقف على ساق ويُسند الأخرى على الحائط، ونسمع الصوت "العميق" للمعلّق الفرنسي الذي يُحاول تحليل هذه "الظاهرة" وربطها بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. واستمر تداول هذه الكلمة دائماً في نفس السياق، حتى عندما نسِيها الشارع الجزائري... لكن المُلفت في الأمر هو أنّه ولا مرة تمّ التعرّض للحيطيست من حيث علاقتهم بالمدينة التي يعيشون فيها، أو بضواحيها، لم أقرأ أبدا عن الحيطيست كظاهرة مدينية، تشرح علاقة هؤلاء الشباب بمدينة الجزائر مثلاً، دائما ما كان يتم التركيز على كلمة الحيطيست التي تفَرنَست، رغم أن الدارجة الجزائرية تعجُّ بالكلمات التي عبرت من العربية إلى الفرنسية وبالعكس، ثم يأتي المستوى الثاني وهو تصنيف الظاهرة في خانة المشاكل الاقتصادية وما شابه.

« ce matelot ivrogne, inventeur d’Amériques »

Baudelaire, Le Voyage

.

نجد عند الشاعر الفرنسي شارل بودلير تعبيراً يتكرّر بكثرة في نصوصه ومقالاته التي تشرح وتُنظّرُ عن الشاعر في القرن التاسع عشر، هذا التعبير هو: المُتسكّع، أو الفلانور بالفرنسية. ويُمكننا اعتبار جزء كبير من قصائد ديوانه الأشهر: أزهار الشّر، مكتوب من موقع المتسكّع هذا، وكان بودلير قد عرّف المتسكّع بأنّه ذاك المُراقب الشغوف في شوارع باريس القرن التاسع عشر، هذه المدينة الحديثة والسريعة. يهرب المتسكّع من الأرصفة ومن الجموع، لا ينصهر فيها، هدفه المشي البطيء والمتمهّل والمراقبة، انتظار أن يحدث شيء في الساحات العامة والأسواق، هذا هو عمل المتسكّع الذي لا يفعل شيئاً طيلة النهار بل يهِب وقته للفُرجة والارتجال، ارتجال أي شيء ومع أي شخص، من الشحاذ للعازف في الطريق وصولاً إلى الشرطي والعاهرة التي تنتظر زبائنها على النافذة. لكن ما كان يُميّز المتسكّع هو كونه "داندي"، لا يشبه الجميع في شكله ولِبسه وطريقة مشيه... لكن خاصة في الهدف من التسكّع والمشي، هنالك نوع من التعالي عند المتسكعين يجعلهم يلتقطون ما تعجز عين المُشاة العاديون عن إلتقاطه. اللوحات التي يرسمها هذا "الرسام للحياة الحديثة"، تكثيف اللحظات الهاربة، مثل ابتسامة شخصين تتقاطع نظرتهما صدفة في شارع ما، ولن يلتقيا بعدها أبداً.

لاحقاً سيأتي الفيلسوف الألماني اليهودي فالتر بنيامين بعد ما يقارب القرن، ليُطوّر من مفهوم المتسكّع في مقالاته الطويلة حول بودلير، وحول باريس كمدينة حديثة في القرن التاسع عشر، حيث كتب عن أخبار المتسكعين الذي كانوا يمشون في الشوارع وراء سلاحف يربطونها بخيط مثل الكلاب، وعن مفهوم المتسكّع الذي قال بأنه "يقف على عتبة المدينة" أي أنّه لا يترك نفسه ينصهر في جموعها ولا يصنع لنفسه مساراً يومياً واحداً، لا يخرج عنه، بل هو دائم الحذر منها، يُعاكس سرعة الحياة فيها، يمشي ببطء ويلتقط ما يُمكن التقاطه.

بينما عندنا، في الجزائر، ظلّت صورة الحيطيست في الأدب الجزائري سطحية وغير مطروقة بشكل جدي، ومتأثرة بالصورة التي أنتجها الآخر عنّا – عن الحيطيست تحديداً، دائما ما تجد الكتاب (خاصة الفرنكوفونيين) يؤثّثون مشاهد رواياتهم وقصصهم بجماعة من الحيطيست تتكئ على حائط ما ليل نهار، لا يأبه الكاتب بوجود هذه الجماعة سوى ليوصل لنا فكرة أن هذا الحي (أو المدينة) فقير أو شعبي، أو يجعلهم شاهدين على جريمة ما أو حادثة اختطاف مثلاً. ظلّ الحيطيست شخصاً مُبهما داخل هذا الأدب لأنّه لا يفعل شيئاً، في نظر الكاتب. هنالك استثناءات قليلة طبعاً، نذكر منها أعمال الروائي الراحل الصادق عيسات، لكن تبقى الصورة ناقصة وغير مُكتملة، لم يُنظّر أحد حول الحيطيست والعاطلين عن العمل مثلما فعل ألبير قُصيري مثلا مع أبطاله، هذا الكاتب المصري الفرنكوفوني الذي عاش ما يقارب القرن في فندق صغير بباريس.

قد يقول البعض أن الكلمتين مختلفتين من حيث الإصطلاح واللغة، حيث أن الحيطيست ثابت لا يتحرك، والمتسكع هو بالأساس شخص ضد الثبات والجمود، لا يتوقّف عن المشي والاكتشاف... هذا صحيح عندما نرى الأمر بعين سطحية، لكن لا يجب أن ننسى أن أصل كل "الرحلات" والتسكع في الأدب هو الخيال، سواء عند الكاتب الفرنسي سيلين صاحب كتاب "رحلة في آخر الليل" الذي يقول: السفر، شيء مفيد، يجعل المُخيّلة تعمل. أو عند بودلير نفسه، الذي نفهم معنى السفر من خلال قصائده ونصوصه، فالسفر ليس فقط حول العالم أو حول المدينة كما فعل هو، بل أيضاً عبر المخيّلة، وهذا ما نقرأه في قصيدته الشهيرة "الرحلة" حين يقول: هذا البحّار السكير، مُخترع الأمريكات. أي ذلك الذي لا يتحرّك من مكانه ويخترع العوالم الجديدة داخل رأسه، تماماً كما يفعل ملايين الجزائريين هنا، وفي بقية العالم...

لأن المدن لا تتشابه، فلكل مدينة شخوصها، هدفهم واحد وإن اختلفت الطرق: قتل الملل ! الخروج كل يوم إلى شمس النهار، من دون مشاريع واضحة، مستعدين لأي شيء ولأي رحلة، منتظرين ما سيأتيهم عبر سيل الحياة والبشر. وإن كان الفلانور في باريس القرن التاسع عشر يتسكّع ويمشي بلا نهاية، داخل هذه المدينة-المتاهة، فذلك لأنّها "جديدة" وكبيرة بالنسبة لإنسان من ذلك العصر... ليس مثل مدينة الجزائر اليوم، مدينة كولونيالية مبنيّة على تلة صغيرة جنب البحر، بُنِيت ضد أهل البلاد من قِبل المستعمر، أي ضد من سيصبح حيطيست لاحقاً... وإن كان الحيطيست في الجزائر العاصمة يجلس أسفل العمارات ولا يتحرك، ذلك لأن الحياة من حوله لا تتحرّك بالسرعة التي يجب، ورغم ذلك هو لا يختلط بالجموع، ويبقى بعيداً ليراقبها، حاول مثلا أيها القارئ العزيز أن تقف في شارع كبير بالعاصمة، وليكُن شارع ديدوش مراد مثلاً، قِفْ هنالك لمدة عشرين دقيقة وسترى نفس الأشخاص أكثر من مرّة، يذهبون ويرجعون، ذلك لأن العاصمة الجزائرية –وباقي المُدن الكبيرة- لا تزال لحد اليوم مدينة مشاغل ومواعيد، تعمل بوتيرة عمل الإدارات والمحلاّت وتفرغُ عندما تغلق هذه الأماكن، ليست مدينة خُطط وحياة ليل، وتبقى الحياة الحقيقية تحدث في الأزقة الخلفية لهاته الشوارع، حيث يعرف الحيطيست أين يتموقعون ويقفون في انتظار شيء جديد... شيء يقتل الملل


Posts à l'affiche
Posts Récents
Archives
Rechercher par Tags
Pas encore de mots-clés.
Retrouvez-nous
  • Facebook Basic Square
  • Twitter Basic Square
  • Google+ Basic Square
bottom of page